يرصد الدكتور مطفى الفيتوري في هذا المقال كيف تحوّلت أزمة السيولة النقدية في ليبيا من عارض مؤقت إلى واقع يومي يعيد تشكيل حياة الناس واقتصادهم. يصطف آلاف الليبيين يوميًا أمام فروع المصارف، وتمتد الطوابير إلى الشوارع، فتزيد اختناقات المدن، خاصة في العاصمة طرابلس. لا تعكس هذه المشاهد خللًا عابرًا، بل تكشف نظامًا مصرفيًا حكوميًا مترهلًا، عاجزًا عن توفير أبسط وظائفه، حيث يندر النقد الورقي رغم وجود الأموال في الحسابات.

 

 يشير موقع ميدل إيست مونيتور إلى أن أزمة السيولة ليست جديدة. شهدت ليبيا طوابير مشابهة على مدار العقد الماضي، لا سيما عام 2018 عندما فجّر الصراع بين السلطات المتنازعة على المصرف المركزي نقصًا حادًا في الأوراق النقدية، فدفع المواطنين إلى قنوات غير رسمية. عادت الأزمة للظهور بقوة في 2024 مع استمرار الانقسام المؤسسي وتشديد سياسات السحب، فخلقت اقتصادًا نقديًا افتراسيًا يستفيد من الندرة على حساب المواطنين.

 

اقتصاد الندرة وسماسرة السيولة

 

يفضح الكاتب كيف يتحول العجز عن سحب الدينار النقدي إلى فرصة ربح لسماسرة السيولة. يضطر المواطنون إلى بيع الشيكات أو الأرصدة المصرفية مقابل نقد فوري بخصومات كبيرة، فيدفعون ثمن الوصول إلى أموالهم الخاصة. لا يربح صغار التجار من هذا النظام، بل يقعـون أسرى له، إذ يُجبرون على قبول شيكات مخفّضة القيمة أو رفع الأسعار للبقاء في السوق. يتحمل المستهلك العبء الأكبر، فيبحث عن النقد أو يدفع زيادات إضافية حتى لشراء أساسيات الحياة أو شحن الهاتف.

 

يكشف المقال أن المستفيدين الحقيقيين هم من يسيطرون على تدفقات السيولة: سماسرة محميون، موظفون مصرفيون نافذون، وشبكات تحتمي بقوة سياسية أو مسلحة. تغذي هذه المنظومة فجوة عدم المساواة، إذ تتحول السيولة من وسيلة تبادل إلى أداة هيمنة.

 

فساد مصرفي وبنية تحتية مشلولة

 

يربط الفيتوري بين أزمة السيولة وتآكل الثقة في المصارف بسبب قضايا الفساد المتكررة. شهد عام 2025 وحده التحقيق مع عشرات الموظفين والمسؤولين في قضايا اختلاس واحتيال وقروض غير مشروعة وتزوير، شملت مصارف كبرى مثل الجمهورية والصحارى. عززت هذه الفضائح سلوك الاكتناز، وعمّقت الشعور بأن النظام المصرفي غير آمن، ما زاد حدة الندرة والاستغلال.

 

على مستوى الشارع، يبدو رفض المحال الصغيرة للدفع الإلكتروني سلوكًا متعنتًا، لكنه في الحقيقة نتيجة سلسلة إكراهات. يصرّ الموردون الكبار على الدفع نقدًا، فيجبرون التجار الصغار على تبني سياسة “الكاش فقط”. يوضح أحد أصحاب البقالات أن رفضه الدفع بالبطاقة سببه التزامه بسداد مستحقات الموردين نقدًا. هكذا تنتقل الضغوط من أعلى السلسلة إلى أسفلها، فيتحمل المستهلك العبء النهائي.

 

تفاقم الأزمة بنية تحتية هزيلة لتوزيع النقد. لا يتجاوز عدد أجهزة الصراف الآلي في ليبيا 300 إلى 450 جهازًا، وهو رقم متدنٍ للغاية في اقتصاد يعتمد على النقد. في طرابلس وحدها، يخدم الجهاز الواحد عشرات الآلاف، وغالبًا ما يبقى فارغًا أو يضخ مبالغ ضئيلة، فيتحول إلى عنق زجاجة بغض النظر عن أرصدة الحسابات.

 

إصلاحات معلّقة وكلفة يومية

 

يؤكد المقال أن الأزمة لا تستمر بسبب غموض أسبابها، بل بسبب غياب المساءلة. يكافئ النظام من يملك وصولًا مميزًا إلى السيولة، ولا يمنح حوافز حقيقية للإصلاح. رغم وصف الأزمة بالمؤقتة، يراها الكاتب نتاج سياسات متراكمة وضعف رقابة وتسامح مع إساءة الاستخدام في بلد غني بالموارد.

 

يتناول الفيتوري دور المصرف المركزي، الذي سمح بتطبيق قيود غير متكافئة على السحب، فحوّل السيولة إلى أداة نفوذ. منذ تولي ناجي عيسى منصب المحافظ في أكتوبر 2024، أطلق المصرف حزمة إصلاحات تشمل توسيع الدفع الإلكتروني، وزيادة نقاط البيع، وخفض الرسوم، وإطلاق استراتيجية الشمول المالي 2025–2029، إضافة إلى ضخ سيولة جديدة. تمثل هذه الخطوات تحولات مؤسسية مهمة، لكنها لم تعالج بعد الجذور التي تسمح باستخدام الندرة كسلاح.

 

يختتم المقال بالتأكيد أن الليبيين يدفعون ثمن الأزمة يوميًا: طوابير طويلة، أسعار مرتفعة، أجور منقوصة، وإهانة الحرمان من أموالهم. يستمر هذا الواقع ما لم تُعامل السيولة كمنفعة عامة لا امتيازًا، وما لم تُحكم بقواعد عادلة بدل العلاقات والاتصالات. في ليبيا، لا تنقص الأموال، بل ينقص نظام يوزعها بعدالة.

https://www.middleeastmonitor.com/20251225-libyas-dried-up-banks-the-daily-struggle-for-cash/